قضية فلسطين حاضرة في الأدب المغربي، شعره ونثره، باستمرار،تغنيه وتخصبه وتمده بألق متميز، والذي يطالع هذا الأدب يرى ذلك رأي العين، ويلمس قوة ذلك الحضور وتميزه.وهذا ليس بمستغرب،إذ الشيء من معدنه لا يستغرب كما يقال، فالشعب المغربي عاش قضية فلسطين بلحمه ودمه وروحه وأعصابه في جميع مراحلها، وامتزجت دماء أبنائه بدماء المجاهدين من أبناء فلسطين، فلم يكن من الطبيعي أبدا أن يظل أدب المغاربة بمنأى عن هذا الهم القومي والإسلامي.
والذي يطالع شعر أدباء الحركة الوطنية وروادها مــن أمثال علال الفاسي وعبد الله كنون ومحمد حجي يلمس ذلك الحضور القوي الذي كان يمشي جنبا إلى جنب مع القضية الوطنية المغربية إبان عهد الاستعمار، ومع قضية التنمية واستكمال التحرر في عهد الاستقلال.
ومن الشعراء الذين تمكنت قضية فلسطين من نفوسهم فمحضوها الحب، وجعلوها في شعرهم قضية مركزية، نجد الشاعر الكبير محمد الحلوي، وهو آخر الشعراء الكبار الذين يمثلون المدرسة الكلاسية في ألقها وإشراق عبارتها وإحكام صنعتها،وإذا كان كنون رحمه الله قد قال في مقدمة ديوان الشاعر الراحل إدريس الجائي:"السوانح"،"إنه لا أحد يستحق لقب شاعر،بعد الشاعر المطبوع عبد الله القباج،مثل الشاعر إدريس الجائي"،فإنه يصح اليوم أن نقول، ونحن نتحدث عن شعراء العمود، مع ما في هذه التسمية من تسامح: "إنه لا أحد يستحق لقب شاعر مثلما يستحقه محمد الحلوي".
ظهر محمد الحلوي، منذ ديوانه الأول:"أنغام وأصداء"الذي صدر عام 1966م،متألقا ببراعة التصوير ورشاقة العبارة وجزالة اللفظ وموسيقيته من جهة، وجدة التناول وإنسانية الأغراض وقوة المعنى من جهة أخرى.واستمرت قصائده التي كانت تعرفها الصحف على هذا المنوال.ثم قدم لوحات شعرية سنة 1986 عن معركة أنوال المجيدة التي تخلد بطولة زعيم الريف المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي.فلما كان ديوانه:"شموع"الصادر في عام 1989 رسخ قدم الشاعر في ميدان الفن الشعري من جهة، والنضال الوطني والقومي والإسلامي من جهة أخرى.والذي يجمع كل ذلك عنده ويوحد بين الأغراض ويجعل المختلف مؤتلفا هو قضية فلسطين، ذلك بأنها القضية المركزية التي تجري في عروق الشاعر، وتوجه خطوه الشعري، وتلهمه البيان.فبالرغم من أن الحلوي قسم ديوانه هذا تقسيما أراد له أن يكون خاضعا للتقسيم الموضوعاتي، فكان منه (الدينيات)، و(الوطنيات) و(الطبيعيات) و(القوميات) و (الاجتماعيات) و(المراثي) و(الشوارد)،إلا أن الموضوع الموحد بين هذه الأغراض هو فلسطين التي وحدت بين موضوعات الديوان على ما بينها من تنافر ظاهري، كما وحدت ما بين مشاعر هذه الأمة على ما بين حكامها من تنافر وتنابذ.فلعله كان من المنتظر أن تقوم قضية فلسطين في قسم (القوميات)، وربما (الدينيات)، فيكون ذلك أمرا طابعا،للطابع القومي والديني للقضية، ولكن الحلوي الذي يخص فلسطين فعلا في القوميات ببعض من قصائده، بل بمعظم قصائده، ويجعل لها نصيبا في (الدينيات)،لارتباط فلسطين ببيت المقدس والإسراء والمعراج الخ...لا يغادر فلسطين ولا يلوي صفحة الإعراض عنها في بقية الغراض.إن فلسطين في الحقيقة تظل هي الهم المؤرق، والوقود المحرك لعواطف الشاعر، وهي التي تقدح زناد قريحته، فإذا تحدث عن الوطنيات، لم يجد مناصا من أن تكون فلسطين في بؤرة حديثه،وإذا تحدث عن الاجتماعيات لم يجد موضوعا لديه أشد إيثارا من فلسطين وما يعانيه أهلها من تشريد أو تجويع أو تهجير أو تقتيل، بل هو يتجاوز ذلك إلى ما يعد عادة من الموضوعات الذاتية الشديدة الخصوصية، فهو إذا وقف أمام الطبيعة واستبد به جمالها ربط ذلك بفلسطين، وإذا تغزل لم يجد أجمل من فلسطين، بل هو إذا رثى وجد في صفات مرثيه ما يجعله متعلقا بفلسطين، وأما الشوارد وهي التي ختم بها الديوان، فقد خلت وحدها بطبيعتها من الإشارة إلى فلسطين،لأن طبيعة الشوارد أن تميل إلى التأمل والتفكير الفلسفي، ويظهر هذا بجلاء إذا نظرنا إلى هذه الشوارد التي ساقها الحلوي، فأكثرها معارضات لشعراء حكماء، مثل المعري والمتنبي وشوقي،أو مساجلات بينه وبين بعض أصدقائه الشعراء،مثل الشاعر علي الصقلي،والشاعر محمد الإدريسي،أو ومضات يسجل فيها الشاعر مواقفه من الكون والحياة،وهي مواقفه لا تغيب تلميحا هموم الأمة، بالإضافة إلى الهم الشخصي،وذلك مثل قوله، معبرا عن وضعية الشاعر والأديب :
يا ضياع الأديب في وطن أضيـ ــع ما فــيه شاعر وأديب
ينشر الدرّ والجواهر للعمـــ ــي ويشدو للناس وهو كئيب
أو يقولن وهم الأمة مطل برأسه:
ما رأيت الجــزار يذبح شــاةً رافعاً صوتـه يُـمـجّد ربي
لا أراه إلا تذكّرت لصّـــــا يذكــر الله ثم يسرق شعبي
خاتما ديوانه بهذين البيتين:
يا خطاياي ما اقترفتك إلا كنت لي فرصة لأذكر ربي
لمماً كنتِ – أو كبائرَ – فالربّ كبير أجلّ من كلّ ذنـب
غير أن بعض هذه الومضات تفصح، ولو من وراء حجاب، عن هم الأمة الول، هم فلسطين، حتى ولو لم يذكرها اسما.يقول متحسرا على واقع الأمة المهزوم:
يا سيوف الإسلام قد صدئ الغمــ ـــد وكدنا ننسى صليل السلاح
هل ترى العرب خالدا أو صــلاحا أم مضى عهد خـــالد وصلاح؟
فإذا كان اسم خالد يذكرنا بالفتوح الأولى، والمجاد التي سطرها سيف الله المسلول خالد بن الوليد، ولا سيما في اليرموك، فإن اسم صلاح يستدعي على الفور وقعة حطين، وانتصار المسلمين أسيرة بيد الصليبين عقودا كثيرة.، واستعادة القدس على يد صلاح الدين الأيوبي، بعدما ظلت
وهكذا يتبين كيف أن الشاعر محمد الحلوي في ديوانه هذا، سواء أتغزل أم وصف أم رثى وتأسف، أم تأمل وتفلسف، ظل يوقد الشموع من أجل حبيبة واحدة هي: فلسطين.
ولنا وقفة مع بعض فلسطينيات محمد الحلوي .
يقع ديوان (شموع)في ما يزيد قليلا عن أربعمائة صفحة من القطع الكبير، وتحتل القوميات منه حوالي الخمس ،حيث تزيد على ثمانين صفحة، ومعظم القوميات،إن لم نقل كلها، تدور حول فلسطين. وإن نظرة إلى عناوين القصائد لناطقة بنفسها عما يراد، وهذه بعض العناوين،من قسم القوميات:
حزيران – الفدائي-سلام على القدس-المؤتمر الإسلامي-القصى – لبنان الجريح-لبنان الشهيد- حماة العرب- متى يكتب العرب ملحمة...
والشاعر إذا تحدث عن لبنان فإنه يتحدث عن فلسطين، وإذا تحدث عن المؤتمر الإسلامي فإنما يتحدث عن الأقصى وفلسطين، وإذا تحدث عن حماة العرب فإنما ليستفزهم ويستنهض همم لاستنقاذ فلسطين،وإذا تحدث عن حزيران وما لحق العرب من هزائم فإنما يتحدث عن فلسطين.وهكذا تظل فلسطين هي المبتدأ وهي المنتهى.
فإذا عدنا إلى قسم(الدينيات) الذي افتتح به الشاعر ديوانه، وجدنا أول قصيدة فيه، وهي أولى قصائد الديوان، عنوانها(مولد النور)، وفيها يقول:
يا نبي الإسلام أمتك اليـــو متولت بساحها الأرزاء
في فلسطين عبرة ليس تنسى نحن أبناؤها ونحن الداء
أسلمت أمرها إلى كل غاو لائكي وساسها الغوغاء
يا نبي الإسلام أمتك الغــر قى تنادي فهل يخيب النداء
....................
* شاعر وناقد من المغرب ، أستاذ جامعي في مدينة وجدة .